يبدو أن أول تقويم لحساب السنين يعود إلى حقبة أقدم بكثير مما كان يعتقد العلماء حتى الآن، وفق ما تشير إليه نتائج دراسة جديدة نشرت في دورية “جورنال أوف أركيولجي، كونشس، آند مايند”، أجريت في موقع أثري يقع جنوب تركيا.
في هذا الموقع عثر الباحثون على مجموعة من الأعمدة الحجرية تحمل نقوشًا معقدة وغامضة تعود إلى أكثر من 12 ألف عام نقشت عليها رسوم تدل على أن الإنسان القديم كان على دراية بتعاقب الفصول وطول السنة الشمسية.
وبحسب مارتن سويتمان عالم الآثار الأسكتلندي الذي قاد الدراسة، فإن ما دفع السكان القدامى بموقع “غوبكلي تبه” إلى وضع التقويم هو تسجيل حادثة سقوط مذنب أدى إلى حدوث عصر جليدي صغير في تلك الحقبة.
فك الرموز الغامضة
يقع موقع “غوبكلي تبه” الأثري جنوب تركيا قرب الحدود السورية، ويمتد على مساحة تزيد على 9 هكتارات، وهو عبارة عن مجمع قديم من المرافق الشبيهة بالمعابد والمزينة برموز منحوتة بشكل معقد.
وقد أثار الموقع منذ اكتشافه في عام 1965 اهتمام العلماء وحيرتهم في الوقت نفسه، بسبب نصبه الحجرية الموزعة في أشكال هندسية مركبة تحمل نقوشا معقدة وغامضة تعود إلى الحضارة الإنسانية القديمة.
يحتوي الموقع على أجزاء منها مرفقان دائريان يتضمن كل منهما 11 نصبا حجريا لها رؤوس أفقية وأجسام عمودية على شكل حرف “T”، إلى جانب مجموعة كبيرة من التماثيل نحتت على كثير منها نقوش متطابقة بشكل حرف “V”.
وبعد سنوات من البحث، توصل مارتن سويتمان عالم الآثار في جامعة إدنبرة إلى حل لغز هذا الموقع الغامض، مؤكدا أن العلامات الموجودة على هذه النصب الحجرية ليست سوى تسجيل لحدث فلكي كبير أدى إلى تحول رئيسي في الحضارة الإنسانية.
وبحسب بيان صحفي نشر على موقع الجامعة، فإن مؤلف الدراسة يعتقد أن الأنماط على شكل حرف “V” قد تشير إلى عدد الأيام في السنة. وبعدّها، تمكن من فك رموز تقويم شمسي مكون من 365 يوما مقسمة إلى 12 شهرا قمريا و11 يوما إضافيا.
وبحسب سويتمان، فإن هذه النقوش تصوّر دورتي الشمس والقمر وتدل على أن المجتمعات القديمة التي عاشت في هذا الموقع كانت قادرة على تسجيل ملاحظاتها للشمس والقمر والمجموعات النجمية، وذلك مكّنها من وضع تقويم قمري شمسي في العالم سبق التقويمات الأخرى المعروفة من هذا النوع بآلاف السنين.
وتقترح النقوش أيضًا أن الإنسان القديم كان على دراية وفهم واضح لظاهرة المبادرة المحورية للأرض، وهي انحراف بطيء في اتجاه محور كوكب الأرض في دورة تستغرق 25 ألفا و772 عاما تقريبًا. ومن المثير للدهشة أن اكتشاف هذه الظاهرة يُنسب إلى عالم الفلك اليوناني هيبارخوس الذي عاش بعد تلك الحقبة بآلاف السنين.
هل كان سقوط مذنب وراء إنشاء التقويم؟
أما عن الدافع الذي كان وراء إنشاء هذا التقويم الضخم في وقت مبكر من الحضارة الإنسانية وقبل تطور الكتابة، فيعتقد سويتمان أن حدثا كارثيا يتمثل في اصطدام مذنب أو بقايا منه بالأرض قد يكون دفع الإنسان القديم إلى بناء هذا الصرح المعقد.
وتفترض دراسات سابقة أن جرما سماويا قد يكون ضرب الأرض منذ 13 ألف عام، تسبب في “عصر جليدي صغير” دام أكثر من 1200 عام. وقد أدى ذلك إلى القضاء على عدد لا يحصى من أنواع الحيوانات الكبيرة.
ونشر سويتمان وفريق من الباحثين ورقة علمية في عام 2021 تؤكد أن مذنبا مفتتا ضرب الأرض قبل نحو 12 ألفا و800 عام. وأدى هذا الحدث إلى تحول كبير في نمط الحياة من الصيد إلى الزراعة وحتى السيطرة على الحيوانات البرية، وفقًا لتحليل جديد للبقايا التي تم التنقيب عنها بالمنطقة في السبعينيات.
ويستبعد الدكتور سفيان كمون رئيس الجمعية التونسية لعلوم الفلك -في حديث خاص للجزيرة نت عبر الهاتف- أن يكون اصطدام مذنب بالأرض بشكل مباشر وراء إنشاء هذا المعلم القديم، قائلا إن “اصطدام مذنب بالأرض هو حدث فلكي غير وارد في هذا الموقع لأنه كان سيحدث كارثة مدمرة على مستوى الكرة الأرضية ويؤدي إلى انقراضات عظمى، مثلما وقع للديناصورات قبل 65 مليون عام”.
لكن كمون يشير إلى أن مرور مذنب قريبا من الأرض أو سقوط نيزك في تلك الحقبة يبقى واردا، وقد وثقت الحضارات القديمة العديد من أحداث واحتمال مرور المذنبات مثل هيل بوب الذي اقترب من الأرض عام 1997 ومدة دورانه 7 آلاف عام.
وعن علاقة وضع التقويم المكتشف بتحول نمط حياة الإنسان القديم من الصيد إلى الزراعة، يقول كمون إن هناك ارتباطا وثيقا بينهما لما يحتاجه النشاط الزراعي من معرفة بتعاقب الفصول وحساب مواعيد حلولها وانقضائها، مشيرا إلى أن الموقع ينتمي إلى المنطقة المعروفة باسم الهلال الخصيب التي شهدت بداية الحضارة البشرية وظهور الزراعة. لكن ذلك قد لا ينفي احتمال وجود تقاويم أقدم في مناطق أخرى قد تكون لم تكتشف بعد.