هل بدأت تركيا استعدادتها لحرب موسَّعة في المنطقة؟
صالحة علام – الجزيرة مباشر
شواهد عدة تؤكد أن تركيا بدأت أخذ احتياطات أكثر صرامة تحسبًا لمواجهة التهديدات التي يمكن أن تتعرض لها، مع تزايد احتمالات إمكانية اندلاع صراع مسلح بينها وبين الكيان الصهيوني، الرافض للامتثال لمطالب وقف إطلاق النار، واستمرار تصاعد عملياته العسكرية الوحشية على كل من غزة وجنوبي لبنان، التي طالت أماكن متعددة في العاصمة بيروت، وبعض أجزاء من الأراضي السورية، وأحياءً في دمشق والقرى المحيطة بها.
فعقب المخاوف التي أفصح عنها الرئيس أردوغان، وحديثه عن وجود أطماع صهيونية في أراضي منطقة الأناضول حيث ينبع نهر الفرات، تحقيقًا للنبوءة المزعومة بشأن إسرائيل الكبرى، والحدود الجغرافية لأرض الميعاد، عقد البرلمان التركي جلسة مغلقة، عرض خلالها الوزراء المعنيون كل المعلومات والبيانات والخرائط التي تفضح المخططات الصهيونية التي يسعى بنيامين نتنياهو لتنفيذها بوصفه القائد المختار لتحويل هذا الوهم إلى حقيقة على الأرض.
عقب هذا التحرك، عقد البرلمان جلسة أخرى لمناقشة اقتراح الحكومة فرض ضريبة جديدة على بطاقات الائتمان، ورفع الضرائب على عدد من الخدمات الحكومية بهدف تمويل قطاع الأسلحة والدفاع لزيادة القدرات الدفاعية للدولة في ظل الأخطار التي تواجهها نتيجة النزاع الذي تتسع رقعته في المنطقة يومًا بعد آخر.
وزير المالية محمد شيمشك قال “لا مناص أمامنا سوى زيادة قوة الردع لدينا، نحن في منطقة مضطربة، والحرب تحيط بنا من جهات عدة، مما يستلزم معه تعزيز قوة الردع لدينا للوقاية من النيران المستعرة حولنا”، موضحًا أن هناك مخططات للاستثمار في نحو 1000 مشروع، بما فيها منظومة للدفاع الجوي تكون لديها القدرة على حماية جميع أراضي الدولة من أي هجمات صاروخية يمكن أن تتعرض لها.
وفي هذا الإطار، خصَّصت تركيا نحو 3 مليارات دولار من ميزانيتها العام الماضي لتمويل قطاع الصناعات الدفاعية، ومع التطورات المتسارعة في المنطقة تم تخصيص نحو 5 مليارات دولار من ميزانية العام الجاري، ورغم هذه الزيادة الكبيرة فإن المسؤولين الأتراك يرون أنهم ربما يحتاجون إلى مضاعفة هذا المبلغ لمواجهة الأخطار التي بدأت تلوح في الأفق، وتهدد أمن البلاد، وتنال من استقرارها.
وبموجب نص مشروع القانون المقترح، سيكون على الأشخاص الذين يبلغ الحد الأقصى لبطاقاتهم الائتمانية ما يعادل 3000 دولار، دفع ضريبة سنوية تُقدَّر بنحو 22 دولارًا وفق سعر الصرف الحالي لليرة التركية، كما يشمل مشروع القانون فرض رسوم على معاملات كاتب العدل، وترخيص السيارات بنوعيها الجديدة والمستعملة، وشراء العقارات بنسب متفاوتة وفقًا لحالة العقار ومساحته والمنطقة الكائن فيها.
سعيًا لتأمين الاحتياجات المالية لتطوير صندوق الصناعات الدفاعية، البالغة نحو مليارَي دولار سنويًّا، من معاملات الأفراد والشركات، بما يؤمّن تدفقًا مستمرًّا من الدخل لضمان دعم دائم لقطاع الدفاع وتطويره، ويقلل من حجم الاعتماد على التقنيات العسكرية التي تُستورَد، ويسهم في تعزيز القدرات الإنتاجية لمجمل الصناعات الدفاعية المحلية، بدعم مالي كامل من المواطنين.
وللإسراع في تنفيذ خطط مشروعاتها الطموحة في مجالات متعددة مثل الطائرات المقاتلة من الجيل الثاني، والذكاء الاصطناعي، وتطوير منظومات الدفاع الجوي لديها التي تعتمد على الليزر في عمليات اعتراض الطائرات المسيَّرة بأحجامها المختلفة، والعمل على إيجاد أنظمة اعتراض منخفضة التكلفة، وقادرة في الوقت نفسه على التصدي لها بكفاءة.
من جانبه، ساند رئيس الأركان يشار غولر تصريحات وزير المالية بالقول “في الوقت الذي نجد فيه أنفسنا عالقين وسط تطورات جغرافية ساخنة، علينا العمل سريعًا من أجل زيادة قوة قطاع الدفاع لدينا، وجعله أقوى من أي وقت مضى”.
المعارضة التركية وجهت انتقادات حادة لمشروع الحكومة الهادف إلى تأمين التدفقات المالية اللازمة لسرعة تطوير الدفاعات العسكرية، بل ورأت فيه محاولة جديدة من جانب الائتلاف الحاكم تستهدف سحب البساط من تحت قدميها، وإعادة ترميم علاقاته بمختلف شرائح المجتمع التركي الاقتصادية وانتماءاته الأيديولوجية، بإشاعة حالة من الخوف والقلق بينهم على أمن البلاد واستقرارها جراء التطورات في محيطها الإقليمي.
نظرة ضيقة إلى الأمور شابت موقف المعارضة التركية، التي لم تعد ترى سوى أن فرصتها في اعتلاء السلطة في البلاد تتضاءل بشدة حتى كادت تتبخر، مع كل التطورات التي تمر بها المنطقة، والتهديدات الفعلية التي أصبحت تركيا تقع تحتها، لذا زادت من ضغوطها الرامية إلى التعجيل بإجراء انتخابات مبكرة قبل أن تفقد بقية الزخم الذي منحتها إياه نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة.
لم تلتفت قيادات المعارضة إلى حجم الأخطار الفعلية التي تواجهها البلاد، والتي نبَّه الرئيس أردوغان إليها أكثر من مرة، فإذا كان من الممكن استبعاد إمكانية حدوث مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا وإسرائيل، باعتبار أن إسرائيل لن تقدم على مهاجمة دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي يدعمها عسكريًّا ولوجستيًّا بشكل كامل، إلا أن هذا الطرح لا ينفي أن مخاوف أردوغان ترتكز على نقاط عدة مهمة، يمكن تلخيصها في التالي:
أولًا: إن استمرار اتساع نطاق جغرافية المواجهة العسكرية، واستهداف جيش الاحتلال مناطق في سوريا وإيران إلى جانب غزة ولبنان، سيتسبب في القضاء على الأمن والاستقرار بالمنطقة، مما ينعكس سلبًا على تركيا أمنيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا.
ثانيًا: ترك الساحة خالية أمام همجية دولة الاحتلال، ودخولها الأراضي السورية -خاصة مناطق الجنوب- من شأنه أن يؤدي إلى موجة نزوح جديدة للاجئين الفارين من الحرب اتجاه مناطق الشمال، مما سيستلزم معه قيام تركيا بتوسيع ما تطلق عليه “المناطق الآمنة” لاستيعاب الأعداد الجديدة من النازحين.
ثالثًا: إن أكبر المستفيدين من الصراع القائم حاليًّا واتساع نطاقه ليشمل الدولة السورية (وفق وجهة نظر أنقرة) هي التنظيمات الكردية المسلحة في الشمال السوري، التي يمثلها كل من وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني المدعومان من الإدارة الأمريكية، اللذان يهدفان إلى إقامة كيان سياسي منفصل عن الدولة السورية المركزية، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي التركي.
وترى أنقرة أنه ليس من المستبعَد أن تقوم هذه التنظيمات، التي تربطها علاقات وثيقة بدولة الاحتلال، بشن حرب بالوكالة ضد تركيا، بإيعاز من تل أبيب وواشنطن.
رابعًا: إن إتاحة الفرصة أمام إسرائيل لتحقيق أهدافها، وإقامة ما تطلق عليه “الشرق الأوسط الجديد”، من شأنه خلق واقع جديد في المنطقة، يمنحها القدرة على أن تكون القوة المهيمنة الوحيدة بها، الأمر الذي -إن حدث- سيسبب ضررًا بالغًا بمكانة باقي القوى الإقليمية الأخرى، ومن بينها تركيا.
خامسًا: ترى تركيا في الخريطة التي يرتديها جنود جيش الاحتلال، المتضمنة أراضي في الأناضول، خطرًا فعليًّا على الوحدة الترابية والجغرافية للدولة التركية، باعتبار أن هذا الأمر إنما يمثل عقيدة أيديولوجية ثابتة لدى هؤلاء لا يمكن تجاهلها أو الاستخفاف بها، لأنها تعني في نهاية المطاف تزايد احتمالات حدوث مواجهة عسكرية بين إسرائيل وتركيا في المناطق الحدودية.
وفي مواجهة هذه التهديدات، اتخذت أنقرة خطوات عدة على الصعيدين الداخلي والخارجي، منها سعيها لعقد مصالحة مع النظام السوري بدعم من إيران وروسيا، ومحاولة إيجاد أرضية للتوافق لإنهاء الصراع المستمر بين الدولة والمكون الكردي لديها.
فالمعلومات المتداولة تؤكد وجود محادثات جديدة بين الحكومة وزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، سعيًا للتوصل إلى عملية سلام جديدة بين الطرفين، تؤدي إلى إلقاء السلاح.